الحكمة من اختيار شهر رمضان للتعبد

الحمد لله.

أولًا:

الله سبحانه وتعالى هو العليم الحكيم، والمؤمن قد يعلم الحكمة التي من أجلها شرع الله الحكم، وقد لا يعلمها، وحينها يقول كما قالت الملائكة:   سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ   البقرة/32.



والله تعالى يفضل بعض الأزمان على بعض، وبعض الخلق على بعض، درجات منه سبحانه وبحمده، والله يختص برحمته من يشاء .

ولسنا نعلم على وجه اليقين، الحكمة من اختيار شهر رمضان كظرف زماني للعبادة.

والله جل جلاله ، هو خالق الخلق، ومالك الملك، خلق الزمان، وشرف بعضه على بعض، وخلق المكان، وفضل بعضه على بعض، وخلق العباد، واصطفى بعضهم على بعض، وهذا من تمام عظمته، التي لا يبلغ كنهها أحد، ومن تمام ملكوته، الذي تعجز الخلائق عن إداركه، قال تعالى  : مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ  الحج/74-76


وهذا من تمام مشيئته، وطلاقتها، وعظيم ربوبيته، وسلطانه سبحانه . قال الله تعالى :  كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ  الحج/13 ، وقال تعالى:  وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ القصص/68 .


قال ابن القيم رحمه الله :

" أي: ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده، فكما أنه المنفرد بالخلق فهو المنفرد بالاختيار منه، فليس لأحد أن يخلق ولا أن يختار سواه، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، ومحال رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه." .


ثم قال :

"وإذا تأملت أحوال هذا الخلق، رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه ، دالا على ربوبيته تعالى ، ووحدانيته ، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو ، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره .


فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص ، المشهود أثره في هذا العالم : من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدق رسله، فنشير منه إلى يسير يكون منبها على ما وراءه دالا على ما سواه.


فخلق الله السماوات سبعا فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من ملائكته، واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه، وأسكنها من شاء من خلقه، فلها مزية وفضل على سائر السماوات، ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى.


وهذا التفضيل والتخصيص ، مع تساوي مادة السماوات ، من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار.


ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها، وفي بعض الآثار: " إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه ".


ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم على سائرهم، كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:   اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم  .


فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم، واصطفائهم، وقربهم من الله، وكم من ملك غيرهم في السماوات، فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة. فجبريل: صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل: صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات، وإسرافيل: صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات، وأخرجتهم من قبورهم..." انتهى من "زاد المعاد" (1/42) وما بعدها .


ثم أيضا، رحمه الله ، بعد كلام :

" ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض، فخير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر...


ومن ذلك تفضيل شهر رمضان على سائر الشهور، وتفضيل عشره الأخير على سائر الليالي، وتفضيل ليلة القدر على ألف شهر." .


" والمقصود أن الله سبحانه وتعالى اختار من كل جنس من أجناس المخلوقات أطيبه، واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره، فإنه تعالى طيب لا يحب إلا الطيب، ولا يقبل من العمل والكلام والصدقة إلا الطيب، فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى" انتهى من "زاد المعاد" (1/54،57، 64) .


ثانيًا:


تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر رمضان، للتعبد ، والصيام :


فإن كان المراد تخصيصه لذلك بعد النبوة: فهو إنما يفضل ذلك بوحي الله تعالى له ، وهو الذي اختاره لعباده ، وأمرهم أن يصوموه ، ويتعبدوا له فيه ، تعبدا مزيدا عن باقي الشهور، وهو ما سبق بيانه في المسألة الأولى .


وأما إن كان المراد السؤال عن تحنثه صلى الله عليه وسلم ، وتعبده لربه في غار حراء، قبل أن ينزل عليه الوحي، ويكرمه الله بالنبوة : فهذا لا علم لنا بتفاصيله، وحاله صلى الله عليه وسلم فيها، ولا يترتب على معرفة ذلك، أو الجهل به : شيء من الدين، لأن الدين والشرع العام للعباد: إنما هو ما جاء به صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، وأما قبل النبوة ، فلسنا مأمورين باتباعه فيه، صلى الله عليه وسلم .


وذكر بعض أهل العلم احتمالا : أن يكون ذلك من بقايا دين إبراهيم عليه السلام، التي بلغته، كما بغلت آخرين من الحنفاء، الذين كانوا يتعبدون لله ، على ملة إبراهيم عليه السلام، قبل أن يوحي الله لنبيه بشرعه .


قال العلامة الطاهر ابن عاشور، رحمه الله : " واختير شهر رمضان من بين الأشهر ، لأنه قد شرف بنزول القرآن فيه، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة ، وهُداها ؛ ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس ، والتقرب من الحالة الملكية : واقعًا فيه .


والأغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء ، قبل أن ينزل عليه الوحي ، إلهامًا من الله تعالى ، وتلقينًا لبقية من الملة الحنيفية ، فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان ، أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر" انتهى من "التحرير والتنوير" (2/ 173).


والله أعلم .



المصدر : https://islamqa.info/ar/298140

لا تنس الصلاة والسلام على خير الأنام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

0تعليقات