حُكْمُ الحَجِّ والفَوْر والتَّراخي فيه، وحكم جاحده، وحُكْمُ العُمْرَة وتَكرارِها



المَبْحَثُ الأوَّلُ: حُكْمُ الحَجِّ وحكم جاحده:المطلب الأول: حكم الحجالحجُّ ركنٌ من أركانِ الإِسْلامِ، وفرضٌ من فروضِه.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قولُه تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ  (1)[آل عمران: 97].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: بُنِيَ الإِسْلامُ على خمسٍ: شهادَةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وحَجِّ البَيْتِ، وصَوْمِ رَمَضانَ))  (2) .
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر  (3) ، وابنُ حَزْمٍ  (4) ، والكاسانيُّ  (5) .
المطلب الثاني: حكم جاحد الحجمَن جَحَد وجوبَ الحجِّ، فهو كافرٌ.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ: 
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابن تيميَّة  (6) .
المبحثُ الثَّاني: الفَورُ والتراخي في الحَجِّالحجُّ واجبٌ على الفَوْرِ عند تحقُّقِ شُروطِه، ويأثمُ المرءُ بتأخيرِه، وهو مَذْهَبُ الحَنابِلَة  (7) ، وروايةٌ عن أبي حنيفةَ، وقولُ أبي يوسُفَ من أصحابِه  (8) ، وقولُ بعضِ المُتَأخِّرينَ من المالِكِيَّة، ونُقِلَ عن مالكٍ  (9) ، وهو قولُ داودَ الظَّاهريِّ  (10) ، وذهب إليه أكثَرُ العلماءِ  (11) ، واختاره الشَّوْكانيُّ  (12) ، والشِّنْقيطيُّ  (13) ، وابنُ باز  (14) ، وابنُ عُثيمين  (15) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قَوْلُه تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا  [آل عمران: 97] والأمْرُ على الفَوْرِ (16) 
2- قَوْلُه تعالى: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148].
3- قَوْلُه تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ اللهَ سبحانه قد أمر بالاسْتِباقِ إلى الخيراتِ والمُسارَعَةِ إلى المغفِرَة والجنَّة؛ والمسابَقَةُ والمُسارَعَةُ كلتاهما على الفَوْرِ لا التَّراخي، فالتأخيرُ خِلافُ ما أمرَ اللهُ تعالى به  (17) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: خطبَنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم، فقال: ((أيُّها النَّاسُ، قد فرض اللهُ عليكم الحَجَّ، فحُجُّوا))  (18) والأصْلُ في الأمْرِ أن يكون على الفَوْرِ، ولهذا غَضِبَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم في غزوةِ الحُديبِيَةِ حين أمرَهم بالإحلالِ وتَباطَؤُوا  (19) .
ثالثًا: أنَّ الإنسانَ لا يدري ما يَعْرِضُ له، فقد يطرأُ عليه العجزُ عن القيامِ بأوامِرِ اللهِ، ولو أخَّر الحَجَّ عن السَّنَة الأولى فقد يمتَدُّ به العُمُر، وقد يموت فيُفَوِّت الفَرْضَ، وتفويتُ الفَرْضِ حرامٌ  (20) .
المبحثُ الثَّالِث: حُكْمُ العُمْرَةِالعُمْرَة واجبةٌ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة- في الأظهَرِ  (21) -، والحَنابِلَة  (22) ، والظَّاهِريَّة  (23) ، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَف  (24) ، وحُكِيَ عن أكْثَرِ أَهْل العِلْم  (25) ، وهو اختيارُ الشِّنْقيطيِّ  (26) ، وابنِ باز  (27) ، وابنِ عُثيمين  (28) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196].
أوجُهُ الدَّلالَةِ:
الوجهُ الأوَّل: اقترانُها بالحَجِّ، والحَجُّ واجبٌ بإجماعِ أَهْل العِلْم، وهذا ما فَهِمَه ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ فإنَّه قال: (واللهِ إنَّها لَقَرينَتُها في كتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ  (29) [البقرة: 196]).
الوجه الثَّاني: أنَّ معنى الإتمامِ: الإقامةُ؛ أي: أقيموا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله، كما في قَوْلِه تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ [النساء: 103]؛ أي: أتمُّوا الصَّلاةَ، وهذا تفسيرُ سعيدِ بنِ جُبيرٍ وعطاءٍ  (30) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي رَزينٍ أنَّه قال: ((يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبي شيخ ٌكبيرٌ لا يستطيعُ الحَجَّ ولا العُمْرَةَ ولا الظَّعْنَ، قال: احْجُجْ عن أبيكَ واعْتَمِرْ))  (31) .
2- عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، على النِّساءِ جهادٌ؟ قال: نعم، عليهنَّ جهادٌ لا قِتالَ فيه: الحَجُّ والعُمْرَةُ))  (32) .
وجه الدَّلالَةِ:
قولُه: (عليهِنَّ) ظاهِرٌ في الوجوبِ؛ لأنَّ (على) مِن صِيَغِ الوُجوبِ، كما ذكر ذلك الأصوليُّونَ، وعلى هذا فالعُمْرَةُ واجبَةٌ  (33) .
3- عن أبي وائلٍ قال: قال الصبيُّ بنُ مَعْبَدٍ: ((كنت رجلًا أعرابيًّا نصرانيًّا، فأسلمْتُ، فأتيتُ رجلًا من عشيرتي، يقال له هُذَيمُ بْنُ ثُرْمُلَةَ، فقلت له: يا هَنَاهْ، إنِّي حريصٌ على الجهادِ، وإنِّي وجدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مكتوبينِ عليَّ، فكيفَ لي بأن أجْمَعَهما؟ قال: اجمَعْهُما واذبَحْ ما استيسَرَ من الهَدْيِ. فأهلَلْتُ بهما معًا، فلمَّا أتيتُ العُذَيبَ لَقِيَني سلمانُ بنُ ربيعةَ وزيدُ بنُ صُوحانَ، وأنا أُهِلُّ بهما جميعًا، فقال أحدُهما للآخَرِ: ما هذا بأفْقَه مِن بَعِيرِه! قال: فكأنَّما ألْقِىَ عليَّ جبلٌ حتى أتيتُ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ، فقُلْتُ له: يا أميرَ المؤمنينَ، إنِّي كنتُ رجلًا أعرابيًّا نصرانيًّا، وإنِّي أسلمْتُ وأنا حريصٌ على الجهادِ، وإني وجدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مكتوبينِ عليَّ، فأتيتُ رَجُلًا من قومي، فقال لي: اجمَعْهُما واذبَحْ ما استيسَرَ من الهَدْيِ، وإني أهلَلْتُ بهما معًا. فقال لي عُمَرُ رَضِي اللهُ عنه: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك صلَّى الله عليه وسَلَّم))  (34) .
المبحثُ الرَّابِعُ: وقت العمرة وحُكْمُ تَكرارِهاالمطلَبُ الأوَّلُ: وَقتُ العُمرةِتَجوزُ العُمرةُ في كلِّ أوقاتِ السَّنةِ لِمَن لم يكُن متلبِّسًا بأعمالِ الحجِّ، وذلك في الجُملة.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ: 
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ رشد  (35) ، والنوويُّ  (36) ، وابنُ حَجَر  (37) .
المطلب الثاني: حُكْمُ تَكرارِ العُمْرَةِ في السَّنَةِ الواحِدَةِيجوز تَكرارُ العُمْرَةِ في السَّنَةِ الواحِدَةِ  (38) ، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّةِ  (39) ، والشَّافِعِيَّة  (40) ، والحَنابِلَةِ  (41)، وبعضِ المالِكِيَّة  (42) ، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ  (43) .
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفارةٌ لِمَا بينهما، والحَجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ))  (44) .
 وجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه نَبَّه على التفريقِ بين الحَجِّ والعُمْرَة في التَّكرارِ؛ إذ لو كانت العُمْرَةُ كالحَجِّ؛ لا تُفعَلُ في السَّنَةِ إلَّا مرةً لسَوَّى بينهما ولم يُفَرِّقْ  (45) .
2- أنَّ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها اعتَمَرَتْ في شهرٍ مرَّتينِ بأَمْرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: عُمْرَةً مع قِرانِها، وعُمْرَةً بعد حَجِّها  (46) .
لا تنس الصلاة والسلام على خير الأنام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

0تعليقات